بعيدا عن التحركات الاحتجاجية التي يشهدها البريد التونسي منذ أيام، تعيش هذه المؤسسة العمومية مشكلا هيكليا متعلقا بالتصدي الجدي لتمويل الإرهاب وغسيل الأموال، ما يفسّر ضعف المجهودات التونسية في رصد ومنع العمليات المالية المسترابة.
فالبريد التونسي، أحد المؤسسات المالية العمومية، لا يزال غير مبال بمختلف التوصيات والقوانين والإجراءات المفترض اتخاذها للتوقي من تمويل الجماعات الإرهابية.
اخلال بالقوانين الوطنية والدولية
يفيد تقريرا مراقب الحسابات عن أنظمة الرقابة الداخلية لسنتي 2015 و2016، ان الديوان الوطني للبريد يصر على عدم تطبيق الالتزامات التشريعية والتنظيمية الوطنية والدولية المتعلقة بمكافحة الإرهاب.
وقد أفضى عمل مراقب الحسابات لتقييم نظام الرقابة الداخلية الى مجموعة من الملاحظات الهامة من بينها عدم مسايرة وحدة الامتثال التي تم بعثها صلب البريد التونسي في 2013، للمهام المنوطة بعهدتها. حيث تم الاقتصار على دائرتين فقط وتسمية رئيسي مصلحة دون تحديد مهامهما، في حين نص المقرر عدد 312 المنظم لعملها على نهوضها بـ 12 مهمة.
وفي ظل العمليات والمعاملات المالية والبريدية الضخمة (42 مليون عملية مالية في 2015) التي يؤمنها 1017 مكتب بريد في مختلف الولايات، يبقى إطارات وحدة مراقبة الامتثال غير قادرين على مراقبة العمليات المسترابة وكشفها وتبليغها الى اللجنة التونسية للتحاليل المالية.
وتتوزع العمليات البريدية بين الادخار البريدي والحسابات البريدية الجارية والتحويلات المالية والحوالات والنقديات.
كما لم تعمل وحدة مراقبة الامتثال على صياغة آليات لضمان الامتثال ومعالجة المخاطر المحتملة ولم تعد خارطة لمخاطر عدم الامتثال لتحديد المراقبة واقتراح الاليات الكفيلة بتحسين طرق القيام بالعمليات المالية، فضلا عن عدم تشريك إطارات وحدة مراقبة الامتثال في دورات تكوينية مستمرة لتحسين أدائهم مع حرمان الوحدة من الإمكانيات اللازمة لضمان اليقظة القانونية والترتيبية.
حزمة من التجاوزات
اما اللافت في تقرير مراقب الحسابات هو عدم عمل البريد التونسي على اعلام سلطة الاشراف واللجنة التونسية للتحاليل المالية ببعض المستجدات على غرار تعيين رئيس جديد لوحدة مراقبة الامتثال. حيث ظلت المراسلات ترد على بريد الرئيس السابق للوحدة.
وعرّج تقرير الرقابة على نقائص أخرى متعلقة بمجهودات البريد التونسي للتصدي لتمويل الإرهاب على غرار عدم ايفائه باعداد تقرير سنوي يتضمن العدد الجملي للتصاريح المسترابة التي تم ارسالها الى لجنة التحاليل المالية، ثم يتم توجيهه للبنك المركزي في ظرف شهر من تاريخ ختم السنة المالية وعدم تعيين ممثل للديوان لدى اللجنة التونسية للتحاليل المالية ولدى سلطة الاشراف وعدم تعميم مجال المراقبة على العمليات المالية المنجزة وعدم انجاز دليل إجراءات متعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال عدم اعلام السلطات الرقابية ومراجعي الحسابات بالمعاملات المالية المتشعبة او المتعلقة بمبالغ مالية مرتفعة أو غير مألوفة وعدم تحيين البيانات المتعلقة بهوية الحرفاء ممارسة يقظة مستمرة تجاه معاملاتهم وحتى تجاه مصادر أموالهم.
كما أشار تقرير مراجع الحسابات عن أنظمة الرقابة الداخلية للديوان الوطني للبريد التونسي لسنة 2016 الى عدم ادراج اعمال وحدة الامتثال كنقطة قارة في جدول اعمال مجلس إدارة هذه المؤسسة المالية العمومية مشددا على '' أنها لم تشهد أي تحسنا في أدائها بل على العكس من ذلك فقد تردت وضعيتها''.
معاملات مالية غير مراقبة
ويبدو من خلال الملاحظات المسجلة من قبل مراقبي الحسابات ان البريد التونسي لا يراقب مجموعة من المعاملات على غرار العمليات والمعاملات المتعلقة بالحوالات البريدية نظام داخلي والعمليات المتعلقة بالحوالات البريدية ذات النظام الدولي EUROGIRO وIFS/IMO والعمليات المتعلقة بالبطاقات الإلكترونية ''ء دينار سمارت'' والعمليات المتعلقة بحسابات الإدخار البريدي والحسابات البريدية الجارية التي تم فتحها قبل تاريخ 15 جانفي 2015 وغيرها..
في هذا السياق أشار مراقب الحسابات الى ضرورة الاخذ بعين الاعتبار سبع نقاط ضرورية، الا وهي:
- تفعيل دور وحدة الامتثال المعنية بكشف ومنع العمليات المالية المسترابة والمتصلة بتمويل الإرهاب وغسيل الأموال، مع دعمها بكل الوسائل اللازمة حتى تؤمن المهام الموكولة إليها على الوجه الأكمل.
- ضرورة صياغة ووضع دليل الإجراءات المتعلق بالتصدي لتمويل الإرهاب وغسل الأموال كما جاء بالفصل 11 من القرار عدد 2 الصادر عن اللجنة التونسية للتحاليل المالية بتاريخ 20 أفريل 2006.
- القيام بتدقيق دوري في نظام الرقابة الداخلية المتعلق بالتصرف في أخطار غسل الأموال كما جاء بالمنشور عدد 15 لسنة 2013 المتعلق بإرساء قواعد المراقبة الداخلية لإدارة مخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
- الالتزام بأحكام الاتفاقية المبرمة بين الدولة التونسية والولايات المتحدة الأمريكية حول قانون الامتثال الضريبي الأمريكي "فاتكا" والعمل على وضع جميع الممهدات الضرورية لإدخاله حيز التنفيذ والنظر في تكليف مكتب تدقيق لتقديم شهادة للتأكد من مدى إمتثال الديوان لمتطلبات القانون، وسلامة الإجراءات والآليات المتبعة في هذا الصدد.
- الالتزام بمقتضيات احكام الفصل 86 جديد من القانون عدد 65 لسنة 2009 وإعلام مراجع الحسابات بالعمليات المسترابة والمعاملات التي تكتسي طابعا متشعبا أو تتعلق بمبلغ مالي مرتفع، بشكل غير مألوف وكل العمليات والمعاملات غير الاعتيادية.
- ضرورة اعداد تقرير يتضمن العدد الجملي للتصاريح التي تم ارسالها الى اللجنة التونسية للتحاليل المالية خلال السنة المنقضية، ومبالغ هذه العمليات وتبويبها حسب نوعية العمليات والحرفاء (شخص مادي أو معنوي) وتقديمه إلى البنك المركزي في وذلك وفق الملحق عدد 6 لمنشور البنك المركزي عدد 15 الصادر بتاريخ 7 نوفمبر 2013.
- تعميم وتفعيل إجراءات ترصد العمليات والمعاملات المسترابة والتصريح بها على جميع الأنشطة المالية بالديوان
وبهذا يمسك البريد التونسي عن تطبيق فحوى القانون الأساسي عدد 26 لسنة 2015 المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال والقرارات الصادرة عن اللجنة التونسية للتحاليل المالية ومناشير البنك المركزي والاتفاقية الدولية المبرمة مع الولايات المتحدة الامريكية حول قانون الامتثال الضريبي ''فاتكا''.
لجنة التحاليل المالية تكشف..
ولم يخلو تقرير اللجنة التونسية للتحاليل المالية حول التقييم الوطني لمخاطر تمويل الإرهاب وغسل الأموال من التعرض الى تقصير مؤسسة البريد التونسي في مجال مكافحة تمويل الجماعات الإرهابية، وذلك بحديثه عن ''غياب جهة رقابية محددة بالنسبة للبريد التونسي، رغم وجود ترسانة متماسكة من النصوص القانونية والترتيبية في مجال مكافحة تمويل الإرهاب.'' وقد سعت انا يقظ الى التثبت من مدى تدارك مؤسسة البريد لمختلف الاخلالات المسجلة في تقارير مراجعي الحسابات، متصلة في الغرض بالمكلف بالاعلام بالبريد دون أن تحظى بأية اجابة.
هكذا إذن تواصل إدارة البريد التونسي الاستخفاف بمختلف القوانين المنظمة للمجهودات الساعية الى التصدي الى تمويل الإرهاب الذي لا يزال يتربص ببلادنا، ما قد يفتح المجال للجماعات الإرهابية لإستغلال مختلف النقائص في هذه المؤسسة المالية للاحتطاب المالي وتنمية اعماله التخريبية والاجرامية في انتظار تحرك حاسم من هذه المؤسسة العمومية أو من سلطة الاشراف لتدارك كل هذه النقائص، رغم أن حكومة يوسف الشاهد قد وعدت بالمضي قدما في اخراج تونس من القائمة السوداء للدول المشجعة على تمويل الإرهاب وغسيل الأموال، وذلك عبر تنقيح قانون الإرهاب، لكن هذا التنقيح لم يغير شيئا.