يبقى التبليغ عن الفساد عملا وطنيا جسورا يتطلب الكثير من الشجاعة ونكران الذات ومواجهة الصعوبات والتحديات وحتى الضغوطات والأخطار المحدقة بكاشفي الفساد، لذلك لم تخرج تسمية القانون الأساسي عدد 10 لسنة 2017 عن ربط مسألة الإبلاغ عن الفساد بحماية المبلغين، حتى لا يكونوا عرضة للانتقام والتهديد. ويبدو أن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي أوكل اليها القانون مهمة حماية المبلغ قد حادت عما هو مسطّر لها عبر ترك عدد من المبلغين وحيدين، كاشفة هوياتهم امام بعض المؤسسات والأطراف التي أسهموا في التصدي لمختلف الأشكال الفساد التي تم اقترافها.
في ثلاثة ملفات مختلفة، تم التبليغ عنها الى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وقعت هيئة شوقي الطبيب في خطأ كشف هوية المبلغ الى الإدارة المعنية بشبهة الفساد أو الى طرف آخر ما يعني جعل المبلغ عرضة لجملة من المخاطر التي قد تؤثر على وضعيته الإدارية وحتى النفسية والجسدية.
تضارب مصالح وتسرع
وقفت منظمة أنا يقظ خلال عملها على ملف فساد بإحدى المؤسسات العمومية على عدم حرص الهيئة على حماية المبلغين. اذ تفطّن المبلغ الى كشف هويته لدى الإدارة التي يشتغل بها، مفسرا ذلك في تصريح للمنظمة بـ''إمكانية وقوع محامية متعاقدة مع الهيئة في وضعية تضارب للمصالح ما تسبب له في العديد من المضايقات الإدارية.''
اللافت في هذا الملف هو اطلاع هذه المحامية على تفاصيل البلاغ، وتعهدها بالملف رغم تعاقدها مع الإدارة المبلغ عنها ما يعد تضاربا للمصالح كان يفترض تجنبه.
في هذا السياق أشارت المؤسسة العمومية محل البلاغ - في اجابتها على مطلب نفاذ لأنا يقظ - الى تعاقدها مع المحامية بين 2014 و2017. معطى دعّمته هيئة مكافحة الفساد في بيانها الأخير إثر نشرنا لشهادة المبلغ، باعترافها بتكليف المحامية رغم تعاقدها أو على الأقل سابقية عملها مع هذه المؤسسة العمومية، ما يوقع هذه المحققة في وضعية تضارب مصالح صارخة.
يعرّف القانون عدد 46 لسنة 2018، تضارب المصالح بـ'' الوضعية التي يكون فيها للشخص الخاضع لأحكام هذا القانون مصلحة شخصية مباشرة أو غير مباشرة يستخلصها لنفسه أو لغيره، تؤثر أو من شأنها أن تؤثر على أدائه الموضوعي والنزيه والمحايد لواجباته المهنية.''
مبلّغة أخرى وجدت نفسها ضحية لكشف هويتها من قبل نفس المحامية، وهي السيدة نعيمة باشا التي اتصلت بالهيئة للتبليغ عن شبهات فساد بإحدى القباضات المالية بتونس 1، لتتعرض الى هرسلة يومية وعقوبات إدارية جراء وشاية من هذه المحامية. وقد فسرت المبلغة ما أقدمت عليه المحققة بسعيها الى تحقيق مصلحة مع القباضة المالية بما ان مكتبها يعود بالنظر الى هذه المؤسسة العمومية، ما يضعنا مرة أخرى امام وضعية تضارب للمصالح.
يذكر أن المحامية المتهمة بالوشاية بالمبلغين قد قدمت ترشحها لعضوية هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد، ما قد يهدد مسار مكافحة الفساد على المدى المتوسط، رغم انها قد خرقت اهم مبادئ العضوية ألا وهي الاستقلالية والنزاهة والحيادية.
تبليغ، ثم كشف.. فنقلة تعسفية
كما عمدت إدارة الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد خلال الأشهر القليلة الماضية الى كشف هوية أحد المبلغين عن فساد اداري ومالي في صفقات عمومية شهدتها مؤسسة عمومية بإحدى المدن، وذلك عبر تسرّع محققيها في ارسال معطيات مستقاة من المبلغ الى الإدارة التي يعود اليها بالنظر دون أدنى مجهود في معالجة هذه المعطيات والوثائق لتجنب أي معلومة قد تشير الى هوية المبلغ، ما تسبب في كشفه من قبل مسؤولي هذه الإدارة.
هذا الخطأ تسبب في تعرّض المبلغ الى جملة من الضغوطات الإدارية بلغت حد نقلته تعسفيا الى إدارة أخرى لحرمانه من الاطلاع على معطيات أخرى قد تكون موضوع ابلاغ آخر الى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، كما جاء على لسان أحد مسؤولي هذه الإدارة.
مع العلم ان شوقي طبيب قد أكد لأنا يقظ في لقاء سابق ان كشف هوية هذا المبلغ قد جاء نتيجة خطأ بشري، واعدا بعدم تكرره، لنكتشف فيما بعد انه ليس حدثا معزولا بل سبقته وشايات بمبلغين اثنين على الأقل.
في ثلاثة ملفات، واجه مبلغون مشكل كشف هوياتهم بعد لجوئهم الى هيئة مكافحة الفساد، لعل أبرز أسبابها عدم اتخاذ الهيئة لإجراءات جدية لتفادي وقوع محققيها في وضعية تضارب للمصالح.